عندما كنت صغيرا سألني صديقي عبد الرحمن فقال:
شجرة عليها 10 عصافير، رمي عصفوران منها بالبندقية فماتا، كم بقي على الشجرة؟
كان جوابي بسرعة أحسبها إذ ذاك سرعة بديهة: 8 عصافير.
فقال عبد الرحمن: خطأ. لا يبقى على الشجرة أي عصفور، لأنّها ستطير هربًا.
تذكرتُ تلك العصافير حينما جرّدتُ قلمي بل لوحة مفاتيحي لكتابة هذا الموضوع.
مهلا…
ما علاقة العصافير بأصول الفقه؟ وما علاقتها بالمعادلات؟
الجواب بكل بساطة:
عندما تأملتُ في تعامل الناس مع هذا العلم التطبيقي، إذا بهم في طرفي نقيض..
· فطائفة تتعامل مع قواعد أصول الفقه بنفس تعامل عامر –في صغره- مع مسألة العصافير وهو تعاملٌ سطحيٌّ غير مسدد.
· وطائفة تهمل أصول الفقه بالكلية وتتعامل مع مسائل الفقه مسألةً مسألةً بحسب ما يظهر له في كل مسألة بحسبها وحسب ما يحتف بها من الأدلة والقرائن –دون قواعد أصوليّة واضحة مطردة-.
وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ.
فليس من السداد أن نتعامل مع القواعد الأصولية على شكل معادلات رياضية لا تقبل الاستثناء إلا بنص صحيح صريح فصيح… إلخ، ونتعامل معها كتعامل عامر مع العصافير.
إذ لا بد من إعمال القرائن وما يحتفُّ بالمسألة..
فمثلا عندما نقول : إنّ الأمر يفيد الوجوب إلا بدليل، لا يعني هذا أننا نحتاج لصرفه عن الوجوب إلى قول الشارع: (إن هذا الفعل ليس بواجب عليكم) أو إلى نصٍّ صريح لا يقبل الاحتمال، ففعل النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف الأمر يحتمل الخصوصيّة، ويحتمل تقدمه على الأمر، ويحتمل تخصيص تلك الصورة بعدم الوجوب دون غيرها، ويحتمل صرف الأمر عن الوجوب…إلخ… والناظر لا بدّ أن يعمل فكره في كل مسألة ليقوّي أحد تلك الاحتمالات…. وهذا النظر في كل مسألة قد يُخرجه عن حروف القاعدة والاطراد الجامد عليها.
ومثلا عندما يقول قائل: إنّ قول الصحابي ليس بحجّةٍ لا يعني أبدًا أنّ قول الصحابي = صفر. في المعادلة الأصولية… بل قد يحتجُّ صاحب ذاك التقعيد بقول صحابي احتفت به قرائن لا تقوى آحادها على الاحتجاج.
فإذا قلنا في المعادلة الأصولية –افتراضًا- : إن الحجة لا تحصل إلا بدليل يحصل على تقدير لا يقلُّ عن 70% أو 80% في ميزان الاحتجاج؛ فإنّ هذا لا يعني بحال أنّ الدليل الذي يحصل على تقدير 65% = صفر في ميزان الحجة؛ بل لا بدّ أن يكون في الاعتبار ولو لم يكن حجّة في ذاته، ولهذا أمثلة أخرى:
فمثلا: الحديث الضعيف ليس بحجّة عند جماعة ، لكنّ هذا لا يعني أبدًا أبدًا أبدًا مساواته بالموضوع وإعطاؤه درجة 0%، بل –على سبيل الافتراض المحض- قد يكون الحديث الضعيف –بمفرده- مع حديث ضعيف آخر مع ثالث مع عاشر مع خمسمائة كلها محكوم عليها بالضعف في أفرادها = حديث متواتر قطعي الثبوت يفيد العلم اليقيني.
وكذلك قل في مباحث الدلالات كالمفهوم ، وكذلك القياس وغيرها من الأدلة والدلالات المختلف فيها.
بل إنّ ما هو متفق على عدم الاحتجاج به كقول العالم المجتهد الواحد قد يكون جزءًا من الحجة في صورة الإجماع –لا سيّما مع قلّة المجتهدين- بل قد يكون هو الحجّة في صورة ما لو لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد –على قول-، ولستُ هنا في مقام بحث لمسألة اشتراط المستند في الإجماع.
وفي الجانب الآخر فإنّ إهمال القواعد الأصولية والاقتصار على النظر في المسائل مسألةً مسألةً مسلكٌ غير سديد يؤدي إلى اضطراب كبير وخللٍ غير يسير.
فتارة يحكم بالمفهوم، وتارة لا
وتارة يجعل الأمر للوجوب وتارة لا
وتارة يحتج بقول الصحابي وتارة لا
إلخ التنقضات التي تستند إلى “دليل ينقدح في ذهنه يعجز عن التعبير عنه”.
والأمثلة لكلا الطرفين غير متناهية، وأحسب أنّ المقصود اتضح؛ فلا حاجة إلى التطويل أترككم للتأمّل.
والسلام عليكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق