الجمعة، 18 فبراير 2011

بين ابن قدامة والحجاوي- نموذج لتجديد الكتاب الفقهي

 
(أما بعدُ:
فهذا مختصر في الفقه من مقنع الإمام الموفق أبي محمد على قول واحد وهو الراجح في مذهب أحمد، وربما حذفتُ منه مسائل نادرة الوقوع، وزدتُ ما على مثله يُعتمَد؛ إذ الهمم قد قصرت، والأسباب المثبطة عن نيل المراد قد كثرت.)
بهذه الكلمات بدأ الحجاويّ كتابه الشهير "زاد المستقنع" مبررًا ذلك التغيير للأسلوب والمضمون الفقهي لـ"المقنع".
لقد أدرك الحجاوي أنّ ما كتبه أسلافه ليس قرآنًا لا يجوز العدول عنه، ولا مصحفًا يجب التقيّد بحروفه، وأدرك حاجة عصره إلى تجديدٍ في الأسلوب والصياغة بل والمسائل الفقهية التي تُذكر في الكتاب، (فربما حذفتُ منه مسائل نادرة الوقوع وزدتُ ما على مثله يُعتمد).
رغم أنّ الاختلافات بين عصر ابن قدامة والحجاوي ليست بتلك الضخامة ولا بذلك التباين كما بين عصرنا والحجاويّ، بل ربما في 10 سنوات من زماننا يجري فيها من المتغيرات والمستجدات التي لم يحصل عُشرها في المدة بين زمن ابن قدامة والحجاوي، ومع هذا فقد غدت بعض مسائل المقنع (نادرة الوقوع)، لا يحسنُ إيرادها في المتون الفقهية.
وهذا الذي فعله الحجاويّ هو الدور الحقيقي للعالم : أن يقدّم العلم الشرعي بلغة قومه وصياغة عصره، (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم)، والعلماء ورثة الأنبياء.
بل إنّ الحجاوي مع التزامه بمذهب أحمد قد خرج عن المعتمد من المذهب وبرر ذلك في قوله: (ولا يشترط كون البذر من رب الأرض وعليه عمل الناس)، لقد أدرك الحجاوي أنّه ليس من المناسب أن يقدّم للناس فقهًا لا يُعمل به، ونظرياتٍ غير قابلة للتطبيق أو لا علاقة لها بواقع الناس.
إنّ الحجاوي حينما ألّف الزاد لم يلغِ به جهد الموفّق، ولم يدعُ إلى الاستغناء عن كتب السابقين -وإنْ كان قد حصل من الناس شيءٌ من هذا-.
وتوفي الحجاوي في عام 960هـ وجاء بعده مرعي الكرمي فأخذ كتابي الإقناع للحجاوي، والمنتهى لابن النجار فأضاف عليها تخريجات وتوجيهات لم يذكراها، ووجد في كتب المذهب ثغرات ومسائل لم تذكر لا بدّ من سدّها والاجتهاد فيها.
وتوفي مرعي ومضى على وفاته 400سنة، استجدّت فيها مستجدّات لا تحصى عددًا، ونزلت نوازل لا تحصر كثرةً، والناسُ ينتظرون ذلك العالم الذي يصوغ لهم متنًا فقهيًا يلامس حياتهم، ويحكم على واقعاتهم!.
ولكن الانتظار طال وطال وطال، والناس لا يكادون يجدون سوى فتاوى متفرقة وسؤالات متناثرة يعسر جمعها في سياق واحد، حتى أصبح الطور الفقهي الذي نعيشه يشبه بدايات تاريخ الفقه حينما كان الفقه متناثرًا في كتب السؤالات والمسائل، وعدنا إلى زمن ما قبل الخلال والخرقي وأبي يعلى –من هذه الحيثية-.
وما زال المتفقّه المبتدئ يقرأ ويحفظ زاد المستقنع أو دليل الطالب، فيمتلئ ذهنه من عشرات أو مئات المسائل التي لا تمتّ للواقع المعاصر بأي صلة، في حين أنّ ذهنه خليٌّ من جلّ المسائل الواقعية المتكررة.
فيا فقهاء الأمّة ويا مجامع العصر هل من مشمّر لكتابة متنٍ فقهيٍّ يلامس حياة الناس وواقعهم يحذف (منه مسائل نادرة الوقوع ويزيد ما على مثله يُعتمَد) ويسدّ الفراغ الفقهي الحاصل؟؟.
عسى أن يكون قريبًا.
عامر بن محمد بهجت
المحاضر بالمعهد العالي للأئمة والخطباء - جامعة طيبة بالمدينة النبوية
14/ربيع الأول/ 1430هـ - المدينة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق